الباحث عن كتاب من كتب تراث المعتزلة هو كالباحث عن إبرة فى كوم قش!، لا توجد فرقة فكرية إسلامية اختفى تراثها المكتوب بهذا الشكل المريب المتربص مثل فرقة المعتزلة، مجرد شذرات هنا وشذرات هناك، أما ما كتبه البناة الحقيقيون لهذا الصرح الفكرى، فمعظمه مخفى عن عمد ومحجوب مع سبق الإصرار والترصد، دلالة هذا الاختفاء وهذه الندرة هى كراهيتنا للعقل، أو بصورة أدق كراهية المدارس والمذاهب الفكرية التى سيطرت على منطقتنا وأمخاخنا، على رأسها المدرسة الوهابية لفرسان العقل من مفكرى المعتزلة. ظلت المعتزلة مذهباً فكرياً راقياً ورائعاً إلى أن لوثتها السياسة واقترنت بالسلطة القادرة على تشويه أى مذهب أو فكرة، حولها كرسى الحاكم من منطق مفحم إلى قمع ملزم، وهنا كانت الكارثة.

المدرسة الانتقائية التى يتبعها السلفيون لسنا ملزمين بها، وللأسف لن يرد عليها إلا بمدرسة انتقائية أخرى، فهم يشطبون المعتزلة، وهذا رأيهم وهم أحرار، لكننا أحرار فى أن نرفض نظرتهم القطاعى التى تعتمد على فكرة الفرقة الوحيدة الناجية التى تكفر ما عداها وتصادر أى رأى عقلانى آخر، وإذا كان الحل غير الجهادى العنيف عندهم لمصادرة الآخر هو إغماض العين عنه وعدم قراءته وبذلك يقنعون أنفسهم بأنه غير موجود، فمن حقنا أن نقرأ الكل ونختار، لكن بشرط أن نقرأ الكل بالعين نفسها والحياد نفسه، ولا نقرأ قراءة عوراء، بل متسامحة تفتح مسام عقلها لكل الأفكار..

لكن ماذا قال المعتزلة لكى يكرههم السلفيون بهذا الشكل، ويشطبوهم من عقول الناس بحيث صارت قراءة المعتزلة من المستحيلات، مثل العنقاء والرخ والخل الوفى؟!

يكفى أن تعرف أن الجاحظ، وهو أعظم من كتب النثر فى تاريخ العرب وأعلى الأدباء العرب قامة وتأثيراً، كان من المعتزلة، يقول الجاحظ فى رسائله عن العقل: «العقل وكيل الله عند الإنسان، جعل إليه أزمة أموره، وقيادة نشاطاته، ولابد أن يدعم الإنسان عقله الغريزى بعقله المكتسب، فذلك هو السبيل لبلوغ غاية الكمال».

أهم الأدلة عند المعتزلة هى العقل ومعه - أو بالأصح يليه فى الترتيب - الكتاب والسنة والإجماع!، لا تندهشوا أعزائى القراء الذين لم يسمع معظمهم من قبل عن المعتزلة لأنهم ببساطة غير موجودين فى كتب المدرسة، وليسوا ضيوفاً على فضائيات الناس أو المجد أو الرحمة! نعم قدموا العقل وجعلوه فى الصدارة دون أن نتهمهم بالتكفير أو بإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة أو إهانة الكتاب والسنة. إنهم على العكس كرموا الكتاب والسنة بأن جعلوا الوسيط أو الفلتر أو العين أو المرآة هى العقل ولا شىء غير العقل، لأنه كما يقولون «بالعقل يميز بين الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، والله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل، وكذلك السنة والإجماع»،

وكما ينقل عنهم د.عمارة - الطبعة القديمة - فى كتابه تيارات الفكر الإسلامى قائلاً: «لولا العقل لما عرفنا من يؤاخذ بما يتركه أو بما يأتيه، ومن يحمد ومن يذم، ولذلك تزول المؤاخذة عمن لاعقل له، والعقل ليس هو أول الأدلة فقط إنما هو أصلها، الذى به يعرف صدقها، وبواسطته يكتسب الكتاب والسنة والإجماع قيمة الدليل وحجيته، لأن حجية القرآن متوقفة على حجية الرسالة، وهما متوقفتان على التصديق بالألوهية، لأنها مصدرهما، فوجب أن يكون لإثبات الألوهية طريق سابق عليهما وهذا الطريق هو برهان العقل».

أما لماذا لقب المعتزلة بفرسان العقل، ولماذا قدموا الدراية على الرواية التى يقدسها السلفيون؟، فهذا له حديث آخر.